وليد أحمد الفرشيشي

    نهاية مرحلة وبداية أخرى.. الطريق إلى الجمهورية الثالثة! ratEREsc خميس, 07/29/2021 - 10:34 نهاية مرحلة وبداية أخرى.. الطريق إلى الجمهورية الثالثة!

     

    بات من المؤكّد أن قطار الحركة التصحيحية التي قام بها رئيس الجمهورية مساء الخامس والعشرين من جويلية آخذٌ في التوغّل نحو مطالب التونسيين الحقيقية، منهيا حالةً من العبث السياسي التي كادت تجهزُ على مقدرات الدولة التونسية وتنسفُ ديمقراطيتها الناشئة.
     ولم تعد توصيفات الزلزال السياسي نفسهُ مهمّة بقدر ما يعنينا كتونسيين إنهاء حالة الشلل التي تعرفها البلاد، وتحويل تونس إلى ورشة إصلاحٍ عملاقة.  ولو أننا قمنا باتخاذ مسافةٍ كافيةٍ وآمنة ممّا يحدثُ اليوم في البلاد، لوقفنا عند حقيقة "جوهريّة" قلّما تطلّعنا إليها في غمرة انشغالنا بالتافه والمبتذل من المعارك السياسية، حقيقةٌ تقولُ إنّ ما حدث مساء 25 جويلية كان إعلانا عن نهايةِ حقبةٍ سياسية، أو بتعبير أدّق، تمهيدًا إلى إنهاء منظومةٍ سياسيّة كاملة أثبتت عجزها الواضح عن إدارة شؤون التونسيين وتحقيق تطلعاتهم في حياةٍ كريمة.
    فقبل سبع سنواتٍ من الآن، صفّق التونسيون ومعهم قادة العالم لحظةَ توصّل النخبة المؤسّسة إلى التصويت على دستور الجمهوريّة التونسية، حتّى غطّى التصفيقُ على كلّ الأصوات المعترضة على مثالب دستور 2014، دستورٌ قدّ على مقاسِ الأحزاب ذات الجماهيرية، وفتّت السلطة تماما، وقسّمها بين سلطاتٍ ثلاث، مبتدعًا نظامًا هجينًا لا أحد يحكمُ فيه، والمعروف، أنّ من لا يحكمُ، لن يقدر على النهوض بعبء الإصلاح، وبالتالي لن يتحمّل المسؤوليّة، لحظة الإخفاق. 

    منظومة تحملُ وزر أعطابها

    لقد قمعت الاصواتُ المعترضةُ وقتها على طبيعتي النظامين السيّاسي والانتخابي، وتُرك لحوار الرّباعي القيام بمهمّة الحاضنة السياسية، لما مرحلة ما بعد حكومة الترويكا، ومع دستور جديدٍ، قيل إنّه من أفضل الدساتير في العالم، ذهب التونسيون إلى انتخابات العام 2014 بأجندات مختلفة ومتباينة، أنتجت مشهدًا فسيفسائيّا، تدورُ أغلبِ أحزابه في فلك حزبيين رئيسيين، هما حركة النهضة وحزب نداء تونس، وكان من الصعب بل والمستحيل أن يحكمُ أحدهما بمفرده، لذا اضطرّا مرغميْنِ على تشكيل حكومةٍ ائتلافيّة، وهي أوّلُ حكومةٍ من هذا النوع في عهد الجمهوريّة الثانية. لكن الأعطاب لم تتأخّرَ لكي تعلنَ عن وجهها القبيح. لقد آلت رئاسة السلطاتُ الثلاث وقتها إلى حزبٍ هو نداء تونس، بيد أنّها كانت رئاسةً صوريّة، كبّلت الحزب الفائز بتحالفات غير منطقيّة، لم تقم على استدعاء البرامج الواضحة، القابلة للتنفيذ، وإنّما على توفير مربّع "تعايش اضطراريّ" بين برامج وأجندات متناقضة. والنتيجة سقوطُ حكومة السيّد الحبيب الصيد، والإعلان عن وثيقة جديدة، إثر حوارٍ سياسيّ مرّة أخرى جمع المنظمات والكيانات السياسية الفاعلة في البلاد، هي وثيقةُ قرطاج التي كّلف الشابُ يوسف الشاهد وقتها بمهمّة تنفيذها. في غضون ذلك، لم يتفطن أحد إلى أنّ النظام السياسي نفسهُ المنبثق عن دستور البلاد هو أحد أسباب العطالة المباشرة، ليتكرّر الأمرُ بحذافيره، بعد أقلّ من سنة، حين دعا الرّئيسُ الرّاحل محمد الباجي قائد السبسي إلى حوارٍ جديدٍ ووثيقة جديدة، وقد حدس هذه المرّة طبيعة العطب، محاولاً فضّ الشراكة مع حركة النهضة (قانونيا ودستوريا لم يكن في مقدوره الدعوة إلى الاستفتاء على تغيير الدستور)، لكن أوان التغيير كان قد فات، بعد استلام يوسف الشاهد زمام الأمورِ مدعومًا بحركة النهضة، حتى انتهى الأمرُ بتقديم موعد انتخابات رئاسية، بعد وفاةِ أوّل رئيسٍ منتخبٍ مباشرة من قبل الشعب التونسي، أثناء مباشرتهِ لمهامّه.
    هل تغيّر الأمرُ في انتخابات العام 2019؟ لا، بل ساءت الأوضاعُ السياسيّةُ أكثر، وأثبت النظامُ السياسي قصورهُ النهائيّ، مع انتخابِ أجنداتَ لا رابط "منطقيّ" بينها. فرئيس الجمهوريّة قادم من محضنةٍ فكريّة تؤمنُ بنهاية زمن الأحزاب وبحلول زمنِ المحليّات والإدارة الذاتية، أما الأحزاب الفائزة في الانتخابات، فجاء أغلبها من محاضن سياسية متنافرة تمامًا، غاب عنها الطابع الأيديولوجي الواضح (يمين، يسار، وسط)، وحضرت معها كلّ أعطاب "المشهديّة" الحزبيّة الفاقدة للرؤى والبرامج، مع تسجيل بدايات ظهورٍ حركات المدّ الشعبويّ الرّافض للمنظومةِ نفسها، كالدستوري الحرّ وائتلاف الكرامة وبعض المستقليّن، ما كان يؤشرـ للأمانة، على استحالةِ البناء والإصلاح على ذلك النحو.
    ووقتها بان بالكاشف أنّ المنظومة التي أنتجتها انتخابات 2019 كانت تحملُ بذور فشلها وأوزار أعطابها. والأمرُ في الواقع يتجاوزُ فساد التربة الحزبية إلى فسادها المالي المعلن، وهو ما وثقتهُ أضابير محكمة المحاسبات، وهو ما يجعل من المنظومة السياسية الحالية برمتها، منظومة ساقطة لا أمل في إصلاحها البتة إن هي تركت على حالها.

    الطريق إلى الجمهورية الثالثة

    ومع ذلك، أن أوانُ المجازفة والنظر مباشرة في عيني رأس الميدوزا، وصدقا لن نتحوّل إلى كائنات رخامية، ذلك أنّ الطبيعة "الرخاميّة" للمنظومة الحالية تفصحُ عن نفسها حتّى يكادُ يبصرها العميانُ. وسنكونُ هاهنا دقيقين أكثر ونقولُ إنّ الحركة التصحيحة التي أنجزها رئيس الجمهورية يجب أن تضع نصب عينيها تغيير هذا الوضع الشاذ وطرح هذا الإشكال بوضوحٍ وحسمٍ. ودعكم هاهنا من المسألتين الاقتصادية والاجتماعية، لأنّ سبب أزمات تونس الرّئيس، هو طبيعة النظام السياسي الذي تحوّل رويدًا رويدًا إلى نظام "إخلاء مسؤوليّة"، وهو ما تكرّس ليلة سقوط هذه المنظومة الهجينة، ما فتح الآمال على قيام جمهوريّة ثالثة قادمة لا محالة.
    فالمنظومة الحالية غير قادرة، حتى وإن أرادت، على إصلاحِ آلة حلاقة فما بالك بإصلاح الأوضاع المعيشية للتونسيين. فطالما أنّ التنافر الأجنداتي والبرامجي هو ما يحرّكُ فاعليها الكبار، فضلا عن فسادهم البين وتلاعبهم بحاضر ومستقبل التونسيين، فستسمّرُ الأوضاع في التدهورِ، والمؤسسات في الإغلاق، والغضب الشعبي في التعبير عن نفسه، والعنف في تمييع العمل التشريعي، والمكائد في فضّ نزاعات السلطات الثلاث، إلخ، إلخ.
    بالمحصّلة، آن أوانُ العمل على تغيير النظامين السياسي والانتخابي، والنظر في عيني رأس الميدوزا دون خوفٍ أو وجلٍ، ذلك أنّ كلّ يومٍ نخسرهُ، هو يومٌ يضافُ إلى رصيد الفشلِ واستحالة الإصلاح!
     

  • Subscribe to وليد أحمد الفرشيشي