
مرّة أخرى يختارُ رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، أسوأ الظروف الممكنة، لتمرير رسائله السياسية، فبعد إقالة وزير الصحّة فوزي مهدي، المحسوب عليه، على إثر تفجّر فضيحة "يوم التلقيح المفتوح"، سارع رئيس الجمهورية إلى استقبال المعنيّ بالأمر في قصر قرطاج- حتّى إنّ هنالك حديث يدور حول إمكانية إلحاقه بمستشاريّة القصر للإشراف على ملفّ الصحّة- في رسالة واضحة إلى رئيس الحكومة هشام المشيشي وحزامه السياسي.
كما لم يكتفِ رئيس الجمهورية بذلك، بل ما وقع من تدافع وفوضى أمام مراكز التلقيح بالجريمة متهما من اسماهم بالأشخاص النافذين في المنظومة السياسية بالوقوف وراء "هذه العملية المدبرة"، غارفا كالعادة من خزان نظريات المؤامرة.
وفيما تكادُ الأزمة السياسية التي تعصفُ بالبلاد تغلقُ قوس عامها الأوّل، بلا آفاق واقعيّة في انفراجٍ قريبٍ، يواصلُ رأس المنظومة نفسهُ "شطحاته" اللغوية بلا رغبةٍ حقيقية في تنقية الأجواء السياسية و الانكباب على معالجة ملفات البلاد الثقيلة وعلى رأسها الملفّ الصحيّ. وإذ يبدو لنا من المنطقيّ أن نشير إلى مسؤوليّة رئيس الحكومة، هشام المشيشي، في ما أصاب مؤسسات البلاد من شلل ألقى بظلاله على علاقات البلاد بشركائها والصناديق الدولية وكبار المانحين، فضلاً عن تسبّبهُ في رفع منسوب الاحتقان الاجتماعي الداخليّ، فسيكون من غير المنطقيّ ألا نشير إلى مسؤوليّة رئيس الجمهوريّة نفسه، لا سيّما وهو يبدي تصلّبا وتعنّتا غير مسبوقين، وكأنّه غير معنيّ بما يحدثُ في البلاد.
والحقّ أنّ مواقف الرئيس باتت تبعثُ على الحيرة كثيرًا، فلا هو صارح الشعب بما يريدهُ أو كاشفه بما يحدثُ في البلاد، ولا هو ساهم من موقعه في حلحلة أعنف أزمة سياسية تعرفها البلاد منذ استقلالها إلى الآن.
صحيح أنّ هنالك شبه اتفاق على أنّ أحد أكبر عيوب مؤسسة رئاسة الجمهوريّة يكمنُ في جهازها الاتصالي، وصحيحٌ كذلك أنّ التونسيين اعتادوا على نمط سلوك الرّئيس الغامض، سلوك يقول كلّ شيء ولا يقول شيئا في الواقع، لكن سيكون من الأصحّ أيضا أن نقول إنّ رئيس الجمهوريّة يتحمّلُ بدوره جزءًا من المسؤولية في وضع الأزمة الحالية، إن لم يكن محرّكها الأوّل، بسبب كمّ الهفوات التي رافقت اختياراته السياسية، وتحديدًا عند تعيين كلاّ من إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي، وصولاً إلى لحظة انفجار الأزمة الصحية الأخيرة وما رافقها من أخطاء كارثية.
غريبٌ عن أرض غريبة
لقد أجمع التونسيون على أنّ قيس سعيّد ينتمي إلى فئة القادة العادلين، فما عرف عن الرّجل من احترامٍ يكاد يكونُ طقوسيا لدستور البلاد وقوانينها، ونظافة يده وسريرته، يعدُّ بالنهاية عامل اطمئنان إلى وجود قيادة رشيدةٍ تضع مصلحة البلاد وشعبها نصب عينيها. بيد أنّ هذا الاطمئنان نفسه سرعان ما ساورتهُ الشكوك، لا بسبب انحراف الرّجل عن عاداته، أو بسبب تغيير مفاجئ في طبيعته، وإنّما بسبب غموض أجندتهِ ومواقفه، حدّ أن التساؤل حول ما يريدهُ الرّئيسُ فعلاً بات أمرًا مشروعًا. لقد قيل إنّ الرّئيس جاء ببرنامجٍ من نقاطٍ "واضحة"، أو هكذا يخيّل إلينا (وسنأتي على تفسير ذلك في ما بعد)، لعلّ أهمها تكريسُ الحكم المحليّ، أي إعادة السلطة إلى الشعب صاحبها الأصليّ، ما يتطلبّ تغيير النظام السياسي وشقيقه الانتخابي وفتح ورشة دستورية عملاقة تتنادى إليها كلّ الأطراف السياسية لمناقشة طبيعة النظام الذي يصلحُ بالتونسيين. وبالفعل، كان الأمرُ سيكون فرصة حقيقية للجميع لدراسةِ أحد الأعطاب الكبرى التي تعانيها المنظومة السياسية في تونس، وهي هذا النظام الهجين، الموزّع بين سلطاتٍ ثلاث، تتنازعُ الصلاحيات دون أن تمارس الحكم فعليّا. لكن ما حدث أن رئيس الدولة لم يبادر إلى طرح الموضوع إلى الآن، ولم يفعّل صلاحياته الدستوريّة، كالدعوة إلى الاستفتاء مثلاً على تغيير النظام السياسي، بل ولم يتحرّك قيد أنملة لشرح وجهة نظره السياسية والقانونية، بل كان علينا أن نتسقّط ما يقولهُ مستشاروه والمقرّبون منه، ونحاول جمع القطع إلى بعضها، كما يفعل لاعبو لعبة "البازل".
عدا ذلك، انخرط الرّئيس في صراعاتٍ ثانوية، أغلبها مفتعل، غالبا مع الأحزاب، ومرارًا مع رئيسيْ الحكومة، المقال والذي يسعى إلى إقالته، وأحيانًا مع أطراف يتهمها بالعمالة والخيانة والاستقواء بالأجنبي، دون أن يتحرّك، باعتباره رئيسا للجمهورية ولمجلس الأمن القومي والقائد الأعلى للقوات المسلّحة، للضرب على أيدي "هؤلاء" أو محاكمتهم أو حتّى تسميتهم بالإسم، ما ضرب مصداقيّة الرّئيس في مقتلٍ، وأظهرهُ في ثوب "المشاكس" الضعيف، العاجز عن إقامة الحجّة على من يتهمهم بمحاولة تفجير الأوضاع من الداخل.
وانخراط رئيس الجمهورية في سياق ردود الفعل المتشنّجة على تحرّكات الأحزاب في المشهد الخلفيّ للأزمتين السياسية والاقتصادية، رغم مسؤوليته المباشرة في اختيار كلّ من إلياس الفخفاخ وهشام المشيشي، بل ومسؤوليته المباشرة في اختيار فريق هذا الأخير الحكومي، وكأن الرّجل وزيرًا أوّل لا رئيس حكومة، ما حدا به إلى الارتماء في شرك "حزام سياسي " تتناقض أجنداته مع خطط رئيس الجمهورية، أضعف دوره داخليا وخارجيا على حدّ سواء، وبعبارة أخرى، مضى عامان تقريبا، ولم نر إلى حدّ الآن أي دورٍ فاعلٍ لرئيس الجمهوريّة، عدا اشتباكه المتواصل مع الأحزاب السياسية ورئيس الحكومة، بلا رغبة حقيقية في تغيير المعادلة.
بلا بوصلة !
وما ذكرناه للتوّ لا يعني أنّ رئيس الجمهوريّة استكان إلى خموله، إذ أننا لا نعدم وجود محاولات يتيمة منه في عددٍ من الملفات الكبرى التي تهمّ البلاد، كملف الأموال المنهوبة في الخارج، أو مكافحة الفساد أو في تحركاته الأخيرة لجلب التطعيمات من الخارج، بيد أنّ هذه المحاولات تظلّ محاولات عقيمة، وخارج منطق تجانس كلّ مؤسسات "الجهاز التنفيذي"، ما أضعف من فاعليتها.
وللأمانة، لسنا ههنا بصدد تشكيك في عزم رئيس الجمهورية، أو في وجاهة خياراته ومواقفه من عدمها، أو حتّى في نبل أخلاقه، إذ لا يختلف عاقلان على أنّ قيس سعيّد يعدُّ علامة "أخلاقيّة" فارقة في تاريخ تونس السياسي، بيد أنّ ما نعيبه على رئيس الجمهورية هو أنّه يمارسُ العمل السياسي بطوباويّة شاهقة تصلُ حدّ التزّمت الطقوسي، وهو ما لا يستقيمُ مع جوهر العمل السياسي، القائم على الحوار والتفاوض والتنازل والمساومات أيضا. كما نعيبُ عليه عدم تحديده لهويّة الصراع السياسي. فهل نحن بصدد صراعٍ على أجندات حقيقية أم أن الأمر لا يعدو كونه تصفية حسابٍ عالقٍ مع مدرسة "الأحزاب" التي لا يخفي الرّئيس عداءهُ لها؟
وفي تقديرنا، ما يعوق الرّئيس عن القيام بواجبه في وضع الأزمات هذا، هو افتقادهُ إلى حاسّة "التنسيب"، وهي حاسّة ضروريّة لحلحلة الأوضاع العالقة. ومع ذلك، نرى أن فرصة تصويب الأمور وتعديل المواقف بما يساعد البلاد على الخروج من نفقها المظلم، ما تزال قائمة، وما على الرّئيس سوى أن يضع كامل عدّته الحربية الآن ويلتفت إلى العقل وحده، عقل يقول إنّه أيضا جزء من الازمة بل ويتحمّل تبعاتها، وما عليه سوى أن يعدّل أوتارهُ، فإما أن يفصح عن مواقفه دفعةً واحدة، ويفعّل ما تحت يديهِ من صلاحيات دستورية، أو ينزل من برجه العاجّي ويجلس إلى الجميع، كأبٍ وقائد لكلّ التونسيين، لا يميز بينهم، بحثا عن مخارج واقعية وبراغماتية للأزمة الحالية.
تحدي القمح والشعير
رؤى للإصلاح... #شكشوكة تايمز الحلقة الثانية مع السيد #الهادي العربي
الدوري السوبر: الأندية المؤسسة ماضية بمشروعها بدعم قضائي
سعيّد: من يتحدث عن خرق للدستور كاذب ولن أتحول إلى دكتاتور
هل تحتاج تونس إلى «الديمقراطية» أم إلى «مستبد عادل»؟
منظمة الصحة العالمية: موجة وبائية رابعة في 15 دولة
قيس سعيّد: حريص على احترام الحقوق والحريات ولن أتنكر لما كنت أدرّسه لأجيال وأجيال
أيوب الحفناوي: الذهبية الأولمبية لم تأت بها الصدفة والملولي أسطورة بالنسبة لي
نهاية مرحلة وبداية أخرى.. الطريق إلى الجمهورية الثالثة!
العين الإماراتي يتعاقد مع المدافع الدولي التونسي ياسين مرياح
تدابير استثنائية.. "جدل ثلاثي" يعكس انقساما سياسيا في تونس
اتفاق مبدئي بين ريال مدريد ومانشستر يونايتد بشأن انتقال فاران
قيس سعيّد.. الكأس نصف ملآن أم فارغ؟
أسامة الملولي.. أسطورة السباحة التّونسي يطمح لإنجاز جديد في طوكيو
قيس سعيّد يطلق صاروخ "الفصل 80" من منصته!
أولمبياد طوكيو- تايكواندو: التونسي الجندوبي يتقلّد الفضة ويحرز أولى ميداليات العرب
اكتشاف حفرية "جد" تماسيح العصر الحديث في تشيلي
أولمبياد طوكيو: النور يبزغ على إحدى أكثر الألعاب جدلية في التاريخ
مجلس إدارة البنك المركزي يقرر البقاء في حالة انعقاد لانتظار مآلات قانون إنعاش الاقتصاد
البندقية تفلت من تصنيفها في قائمة اليونسكو للتراث المعرض للخطر