البرلمان

  • سلالات برلمانية عنيفة: لماذا ندفع أجورًا لهؤلاء؟! ratEREsc خميس, 07/01/2021 - 11:05 سلالات برلمانية عنيفة: لماذا ندفع أجورًا لهؤلاء؟!

     

    صار الحديثُ عمّا يقعُ تحت قبّة مجلس نوّاب الشعب من خلافات وقذف وتشويه حدّ استخدام العنف من بين الأمور التي تثيرُ قرف الإعلاميين والمواطنين على حدّ سواء. 
    فبينما تحتاجُ تونس من نوّابها الميامين مبادرات تشريعيّة تكافحُ المرض والفقر والجهل والفساد، وتنتشل البلاد من قمقم أعطابها، وترسي أسس اقتصاد تضامني واجتماعي يدفعُ في اتجاه تغيير المنوال التنموي الحالي، فضّل جزء من نوّاب الصدفة المضي قدمًا في تصفية حساباتٍ صبيانيّة، جعلتهم أقرب إلى مناصري المدارج المكشوفة، أولئك الذين يوظفهم مسؤولو الأندية الكبيرة لتصريف مشاكل جمعياتهم الداخليّة، منهم إلى مؤتمنين على مصلحة البلاد والعباد. والحقّ أنّ ما يأتونه من مثالب لا طائل من ورائه سوى تحطيم الخصوم السياسيين والتحضير المبكّر للانتخابات القادمة.
    ولعلّ واقعة الاعتداء الجسدي على النائبة عبير موسي من طرف "زميلها" الصحبي صمارة تكشفُ دون لبسٍ حجم الفوّهة التي ابتلعت ما تبقى من آمالنا في إنهاء العهدة الحالية دون الاضطرار إلى متابعة فصلٍ دمويّ جديد (كما حدث في العام 2013). والحقّ أن قناعاتنا ترسّخت أكثر في وجودِ مخطط حقيقي لدفع البلاد نحو الفوضى بعد أن فشل اللسان السياسي في تصريف الاختلافات.. ديمقراطيا! 

    رائحة عطنة في مملكة باردو!

    والحقّ أنّ الأمر لا يتوقّف عند ما قام به الصحبي صمارة مؤخّرًا، إذ بات تبادل العنف اللفظي بين النواب، خبزًا يوميّا وكأننا بالجماعة يعيشون على كوكبٍ درّي واقعٍ في مجرّة البؤس، مختزلين كلّ معاركهم في ألسنتهم، لا في المناطق المنكوبة صحيّ جراء كارثة فيروس كورونا وسلالته المتحوّرة، والمحرومة من حقّها الشرعيّ في التنمية، أو في طوابير العاطلين عن العمل، وسط توقعات بوصول تجاوز البطالة حاجز الـ 450  الف مواطن، أو في تدهور المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، أو في تهالك البنى الصحيّة، أو في انهيار التعليم والتكوين المهني، أو في أعداد المغادرين للبلاد على قوارب الموت،  أو في المحكمة الدستورية التي تعتبر آخر لبنة في استكمال دولة المؤسسات في انتظار التحاق دولة القانون بها، أو في مؤشر الوفيات المتصاعد إثر استئساد جائحة كورونا، أو في مشاريع تشغيل أصحاب الشهائد العليا أو في تدارس وضعيّات المؤسسات الخاصة أو... الحقّ أن التذكير بهذه المهامّ الجسام التي تحتاجُ مشرّعين برتبة مقاتلين يجعلنا نبدو كمصابين بالذّهان، بل وكأنّ المطالبة بتحقيق الأهداف التي انتخبوا من أجلها أشبه بجريمة مكتملة الأركان، ذلك أنّ "الهؤلاء" أثبتوا للمرّة المليون أنّهم غير معنيون بمطالب شعبنا، بل بتحقيق أجنداتهم الخفيّة منها والمعلنة.

    سلالات برلمانية

    وقد يكونُ مبعثُ غضبنا الدفين منهم ومن أفعالهم هو تصديقنا لكذبة "التمثيلية الديمقراطية"، وفي بلدٍ كتونس، ذلك أننا نعرفُ في قرارة أنفسنا  أنّ ديمقراطيّتنا الهشّة مستمرة في إنتاج الأعطاب من داخل المنظومة التشريعيّة نفسها، وهذه الأعطابُ ليست بالنهاية سوى انعكاسٌ لطبيعة التجاذبات السياسيّة تحت قبّة مجلس نواب الشعب، حتّى بلغ التراشقُ بين النواب، حدّ نشر الفيديوهات الجنسيّة المفبركة، ونشر الغسيل القذر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهتك الأعراض، وصولاً إلى اللكم والضرب أمام عدسات المصوّرين.
    وسواء تعلّق الأمر بالصراع بين حركة النهضة والدستوري الحرّ، أو بين الدستوري الحرّ وائتلاف الكرامة، أو بين ائتلاف الكرامة وحسن السيرة والسلوك، فإنّ الثابت الوحيد أنّ الفلكلور القائم على توليد العنف البرلماني لن يتوقف الآن مادامت "القابلة"، أي ذلك العقل التشريعيّ العقيم، مصرّة على إخراج الأجنّة المشوّهة، في ظلّ العجز الواضح عن اتخاذ تدابير صارمة وإجراءات عقابية في حقّ المخالفين، حتّى صار النظامُ الداخلي للمجلس أشبه بالستائر السوداء التي تحجبُ الضوء عن قبة البرلمان، وقبّة البرلمان عن أفعال النواب، وأفعال النواب عن المحاسبة، والمحاسبة عن دولة نريدها دولة قانون ومؤسسات لا دولة تنتج سلالات برلمانيّة متحوّرة..

    قتل سياسي

    صحيح أنّ ما يحدثُ تحت القبّة يحيلُ على مدارس العبث في المسرح والسينما والأدب، لكنّهُ يكشفُ ضمنًا الطريقة التي يقعُ من خلالها "تنفيسُ" الصراعات لا على أسس مبدئيّة وأخلاقيّة وإنّما على أسس أخرى تهدفُ بدرجة أولى إلى إعادة التموقع داخل مشهدٍ سياسي هشّ ومن ثمّة إعداد العدّة للاستحقاق الانتخابي القادم.
    فما يفعلهُ بعضهم مثلاً، تحسبُ عناوينه على مفاهيم فضفاضة كالسيادة وحماية البلاد من التدّخل الأجنبي في قراراتها، بينما الحقيقة تكمنُ في مكانٍ آخر، ألا وهو قتل الآخر سياسيا وإنهائه واستئصاله إن لزم الأمر، تمهيدًا للاستحقاق الانتخابي القادم في سنة 2024. 
    فيما يواصل غيرهم شطحاتهُ ذات الطابع الصبيانيّ، من خلال ترذيل العمل النيابيّ واللعب على الخطابات الصداميّة التي تهدف إلى الاستئثار بالخطاب "الثوريّ النقيّ"، بينما تكشفُ ممارساتهم ولقاءاتهم العرضيّة برموز الفساد، أنّهم مجاميع من طيور الدوريّ التي تزقزقُ في حقول غيرها بل وتطمحُ إلى أكثر من الزقزقة، والمرور إلى التقاط الحبوب الغاضبة في حقل حركة النهضة. 
    في غضون ذلك، لم تتخلّف بقيّة السلالات البرلمانية عن حفل الشواء ريثما يستجيبُ لها القدر وتقفز إلى سفينة السلطة. وفي كلّ هذا بات العنفُ اللفظي سلاحا ضروريا لتصفية الخصوم قبل الهرولة إلى صفحات التواصل الاجتماعي والتباكي أمام جماهير قطعانية لا ترى حجم الحرقة الآخذة في التوسّع في قلب البلد.   
    بل إن منتهى العبث أن تكتفي بعض الأحزابُ والكتل التي توسمُ بالجادة بالفرجة على تحويل العمل النيابيّ إلى فضاءٍ لإعادة تشكيل المشهد السياسي وفق حسابات انتخابويّة مبكرّة تتلاعبُ بالعقول وبالمصائر.
    والحقّ أنّ هذه الوضعية لم تكن تنتظر لكمة الصحبي صمارة التي وجهها غيلة وغدرا إلى زميلته، لكي تعلق بأذهاننا كشامة سوداء على خدّ صبيّة اسكندنافيّة. لنكن إذن صرحاء مع أنفسنا ونقول إن البلاد تشهدُ مأزقا سياسيا اسمه مجلس نواب الشعب، مجلس مشكل من سلالات هي أخطر مليون مرة من فيروس كورونا وسلالاته، سلالات هي عبارة أصحاب مصالح يستخدمون كل ما بين أيديهم من معاجم سفليّة لتحسين ترتيبهم قبل الموقعة الانتخابية القادمة. 
    وهذا المأزقُ تحديدًا هو ما يرفّع باطرادٍ سقف التشاؤم لدى لتونسيّين ويعمّق نفورهمُ من الأحزاب ويعزّز قناعاتهم في ضرورة الإنصات إلى حلول سياسية من خارج منطق الأحزاب وألسنة حالهم تردّد: ما الذي يجبرنا على دفع أجور هؤلاء طالما أنهم يسخرون منا ومن أحلامنا؟
     

  • Subscribe to البرلمان